المثقف والمترجم

خيانة المثقف!-19/1/2023

هذه مقالة أخرى أكتبها في الذكرى الخمسين لوفاة مالك بن نبي (1905-1973)، لأن مالك استشعر الخطر في اللحظة التي أُعلن فيها (سنة 1962) أن المفاوضات التي جرت سرًا وانتهت سرًا في “إيفيان” الفرنسية قد تمخضت عن اعلان للاستفتاء على استقلال ستكتشف الأجيال اللاحقة أنه فرية. بعدها بثلاثين سنة حلت ذات الكارثة بالفلسطينيين سرًا في “أوسلو”، لتتكرر المأساة في السر مرة أخرى وعلى نطاق أوسع ثم تخرج، مع بداية الألفية الثالثة، في صيغة غامضة أسمها “صفقة القرن”.

وقبل التوغل في الموضوع لا بد من التأكيد على نقطتين؛ الأولى ذاتية والثانية موضوعية. إما الذاتية فتتعلق بكوني ممن يجهر بأن الإسلام منهج تفكير ويرى أن حصر الإسلام، أو محاولة حصره، في ركن العبادات خيانة يرتكبها المثقف المسلم ولا أحد غيره، لأن اللوم في هذه الحالة لا يمكن أن يقع على العجائز ولا المساكين الذين يعيشون على “إيمان العجائز”. وبذا يكون نقدي موجه في الجملة إلى مثقف جنوب المتوسط دون تصنيف (إسلامي وغير إسلامي) لأن الخيانة التي اتحدث عنها تستغرق هذا التصنيف وتتجاوزه. والنقطة الثانية موضوعية وتتعلق بخروج السلوك السياسي عن نطاق بحث هذه الورقة، لأن تفكك الجبهة الداخلية والضغوط الخارجية لا يتركان للسياسي من سبيل ليسلكه سوى الخيانة، والسياسيون يلجون هذا السبيل واحدًا بعد الآخر، ومن المحيط إلى الخليج.

وفي السياق السالف بيانه يقع على المثقف إيجاد البديل النظري لهذا التعفن، غير أن المثقف محل نقدي إما خائن ينتظر دوره على المائدة ونصيبه من الوليمة، وإما متخاذل يلوذ بالصمت ويعيش أخلاق العبيد لعجزه عن دفع ثمن الحرية في مجتمع متخلف! بقت كلمة واحدة على سبيل التمهيد وهي أن الخيانة التي اتحدث عنها لاشعورية في الغالب، بمعنى أن الذي يرتكبها يعتقد أنه ممن يحسنون صنعًا، ولذا لا بد أن يتمحور الحديث حول إرادة الخيانة من جهة، والخيانة اللاشعورية من جهة أخرى.

أولاً. إرادة الخيانة.

يقال إن نابليون، الذي رفض مصافحة ضابط من جيش العدو ساهم بخيانته في انتصار الجيش الفرنسي، قال للخائن: تستطيع قبض ثمن خيانتك لكن أنا لا اصافح الخونة. هذا النوع من الخونة يعرف أنه خائن ويعرف ما يبرر خيانته، وهو ما يحصل عليه من ثمن لما انصرفت إليه ارادته من خيانة. ومن هؤلاء كثيرون لعل أشهرهم الجنرال اوفقير الذي قال عنه لوكوتور: ما وقف الشعب المغربي في معركة يومًا إلا ووجد أفقير في صف العدو!

والثمن الذي قبضه أوفقير في مقابل خياناته المتعددة والمتوالية هو توليه الأمن في مغرب ما بعد الاستعمار. لم يكن أوفقير عدوًا للمغاربة فقط، ولم يشتغل بتعذيبهم لحساب فرنسا وحسب، بل امتد عدوانه إلى فيتنام والفيتناميين الذين حاربهم، في بلادهم، باسم فرنسا وخدمة لمشروعها الاستعماري. وأمثال أوفقير ليسوا في كل البلدان فقط، بل هم في كل المهن والوظائف كذلك، ونسبة كبيرة من هؤلاء قائمة على خدمة مشاريع العدو في بلدانهم عن علم وبمقابل، قد يصل أحيانًا إلى رئاسة الوزراء أو رئاسة الدولة. وهذا النوع من الخونة مختلف تمامًا عن مثقف ينفذ خطط العدو ويخدم استراتيجيته وهو يعتقد أنه ممن يحسنون صنعًا.

ثانيًا. الخيانة اللاشعورية.

في التصور الإسلامي هناك عقد مبرم في الأزل بين الله وبني الإنسان: “وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين”. خيانة هذا الأصل هو ما تتفرع عنه كل الخيانات الأخرى، والتي تبدأ باتخاذ الهوى الهً. وهذا النوع من الخيانة يسبب فسادًا في الشعور لدى المفسدين الذين “إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون.” “والله يعلم المفسد من المصلح” ولذا استدرك عليهم قائلاً: “ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون”!  شهد الله إذن بأن هؤلاء يعانون من مشكلة على مستوى الشعور، حتى أنهم يعتبرون المؤمنين سفهاء، ولذا عندما دعوا إلى الإيمان قالوا: “أنؤمن كما آمن السفهاء..”! وقد بين الله حكمه فيهم عندما قال: “ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون”.

عندما لا يكون الحكم لكتاب الله ويُتخذ الهوى إلهً، يصبح الفساد اصلاحًا والايمان رجعية ومحاربة الإسلام تقدمًا والتمسك به تخلفًا. وهذا النوع من البلبلة هو المرتع لكل أصحاب المشاريع المريبة، حتى أن بعض زعماء الثورة الجزائرية شربوا بدماء الشهداء وسكي وشمبانيا. وهذا ما شهد به بن نبي في بيانه من أجل مليون من الشهداء وأكد عليه -كل بطريقته- الرائدان لخضر بورقعة وعلي منجلي وهما من قادة المقاتلين أيام حرب التحرير.

يقول بن نبي في بيانه: “إن أيام الحداد والبؤس التي عاشها الشعب خلال الثورة كانت أسعد أيام زعمائه، أولئك الذين صرفوا دماءه في ولائمهم حيث تسكب الشمبانيا والويسكي..”! وهذا ما أكده الرائد على منجلي في لقاء، موثق مرئيًا، حيث أفاد أنه ذهب إلى القاهرة ابان الثورة، تاركًا وراءه جزائريين يأكلون العشب من الجوع واخرون يبذلون دمائهم في ميدان القتال، ليجد ثلة من القيادة في القاهرة تلتقي يوميًا لتحدد أين تقضي السهرة كل مساء. كانت بعض السهرات في المقطم وبعضها الآخر في الشاطئ الذي كان مخصصًا للملك فاروق، حيث الرقص على أنغام اوركسترا انجليزية. كما كانت الرحلات تتم إلى شاطئ الإسكندرية للترفيه على الزعماء الذين يعيشون عيشة المترفين، بينما دماء الشعب الجزائري تجري أنهارًا وذوي المجاهدين يأكلون العشب.

“ويجب أن نضيف إلى هذا -يقول بن نبي في بيانه- أنه لم تصعد من فم عالم أو مثقف جزائري أثناء هذه المأساة المحزنة صرخة استنكار لإيقاظ الشعب لواجبه”. وفي ختام بيانه يلقي مالك بدعوة “إلى كل جزائري صاحب ضمير أن يبلغ الشعب هذه الشهادة حتى يكون على بينة من الأخطار التي تهدد الحقوق والحريات المقدسة التي مات من أجلها مليون من أبنائه الشهداء وليكون على بصيرة من الأطماع الحقيرة التي تزحف نحو ثمرة ثورته لتجنيها من يده”!

وبالرغم من صدور هذا البيان سنة 1962، وبالرغم من أن نسخة منه قد سلمت لبن بلة، لم يسمع به الشعب حتى سنة 1990، عندما نشر لخضر بورقعة كتابه المعنون “شاهد على اغتيال الثورة”، وكان بيان بن نبي أحد ملحقات الكتاب.

 وبعد نصف قرن من ثورة الجزائر وشهدائها يخرج الجزائريون في حراك يطالب بتنحي الطبقة السياسية كاملة، غير أن السؤال الذي لم يجب عليه المثقف هو: ما البديل؟ وهو السؤال الذي لم يطرح قبل الربيع العربي ولا أثناءه ولا بعده! وهذا لا يعني إلا أن المجتمع ليس له نخبة، أو أنها غير فاعلة، وهو ما يجعل وجودها والعدم سواء. قد يرى الزعماء أن من مصلحتهم إخفاء الحقيقة، فهل للمثقف مصلحة في ذلك إلا أن يكون متواطأً، أي خائنًا؟

في أكثر من مناسبة كان الشعب أكثر وعيًا من النخبة وشديد الانتقام من الخونة، مثلما حصل عندما قُتل السادات مثلما يقتل أي ضابط فر من ميدان المعركة: رميًا بالرصاص. ومثلما فعل الشعب المغربي بحكومة الإسلاميين عندما هوى بها إلى أسفل سافلين في أول انتخابات بعد الخيانة.

لوم السياسيين لن يجدي نفعًا، وقد يكون لوم المثقفين أكثر جدوى لأن البديل لن يأتي إلا من جهتهم وإن لم يكلفوا بذلك. وهذا ما أحاول القيام به في الذكرى الخمسين لوفاة مثقف حقيقي هو مالك بن نبي، الذي مشى وحيدًا ومات وحيدًا ممثلاً لأبي ذر  في اخلاصه للدين ووفاءه للمسلمين.. فلا نامت أعين الجبناء من المثقفين، وعلى رأسهم الاسلاميون.

خيانة المترجم-24/1/2023

خيانة المثقف أوحت إليَّ الكتابة عن خيانة المترجم، فهذا الموضوع ببالي منذ زمن ليس بالقصير لكن شغلتني عنه أمور. ما شجعني على ترك المماطلة وإنهاء التسويف هو أن خيانة المترجم قد لحقت كتاب “شروط النهضة”، وهو من أهم كتب الأستاذ مالك بن نبي (1905-1973) الذي حلت بنا الذكرى الخمسين لوفاته هذه السنة.

في إحدى المرات التي كنت أقرأ فيها النص المترجم إلى العربية من “شروط النهضة” وقعت عيني على عبارة: “ومن سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم، والعكس صحيح”، فأدركت على الفور أن هذه العبارة ليست لمالك بن نبي، وهي ليست من لغته بالفعل، لكن الجزم بذلك لا يمكن أن يقع دون الرجوع إلى النص الأصلي وهو بالفرنسية. وبمراجعة النص الفرنسي تأكد لي صدق حدسي لأن ذاك النص يقول:

Chaque foi que l’idée disparait, l’idole règne de nouveau et réciproquement.

 “من سنن الله في خلقه” ليست موجودة في النص الفرنسي، وقد جاءت العبارة في فصل عنوانه الفرنسي “Idole”، وترجمته العربية السليمة هي “الصنم”، لكن المترجم ترجمه على هواه فأصبح العنوان في النسخة العربية من الكتاب “دور الوثنية”. وبذا يكون بذات الصفحة تحريفان مما يمكن تصنيفه خيانة علمية: الأولى التصرف بشكل مخل فيما يتعلق بعنوان الفصل، والثانية الحشو الذي يدخل لغة غير لغة بن نبي في ترجمة كتاب من كتبه! لغة بن نبي وعقلانيته قريبة من لغة ومنطق ابن خلدون الذي لا يستخدم عبارة “سنن الله” جزافًا، ويستخدم عوضًا عنها عبارة “مستقر العادة” حتى لا يختلط شعبان برمضان.

وقد صادفت هذا النوع المفزع من الخلط والخيانة العلمية في ترجمة كتاب لورنس العرب المعنون “أعمدة الحكمة السبعة” حيث يقول لورنس عن العرب:

They invented no system of philosophy, no complex mythologies. They steered their course between the idols of the tribe and cave: those of the theater and market-place were not within their sight.

والترجمة الدقيقة لهذا النص يمكن أن تكون كالآتي:

[العرب]” لم يخترعوا نظامًا فلسفيًا، ولا ميثولوجية معقدة. إنهم يشقون طريقهم بين أصنام القبيلة وأصنام الكهف؛ أما أصنام المسرح وأصنام السوق فهي ليست في مدى نظرهم.”

المترجم الذي ترجم كتاب لورنس إلى العربية ابتسر الجملة المعقدة والمثقلة بالمعاني في لغة لورنس الاصلية/الانجليزية إلى الكلمات الآتية: “وفي حقل الفلسفة لم يسبق للعرب أن وضعوا نظمًا فلسفية أو ميتولوجية معقدة. بل اتبعوا دائمًا الطريق الضيقة القصيرة بين أصنام القبيلة”! لقد حذف المترجم من الترجمة ثلاثة أنواع من الأصنام المذكورة في النص الأصلي والتي يعبدها عرب اليوم وهم لا يشعرون.

الاصناف الأربعة للأصنام هي التي أوردها فرانسيس بيكون في كتابه الشهير “الأرغانون الجديد” وهي: “أصنام القبيلة” و”أصنام الكهف” و”أصنام السوق” و”أصنام المسرح”.

 Idols of the tribe, idols of the den, idols of the market, idols of the theater.

محمد عابد الجابري ترجمها من جانبه، وفي كتابه “مدخل إلى فلسفة العلوم” إلى “الأوهام” مرتكبًا كبيرة أخرى من كبائر الترجمة، وخيانة علمية لا تغتفر لمفكر بوزنه. ومن ثمَّ أصبحت “الأصنام” عند بيكون تتحول إلى “الأوهام” عند الجابري، وإذا بـ”أصنام القبيلة” تتحول عند الجابري إلى “أوهام القبيلة”، و”أصنام الكهف” تتحول عند الجابري إلى “أوهام الكهف”، و”أصنام السوق” تتحول عند الجابري إلى “أوهام السوق”، و”أصنام المسرح”، تتحول عند الجابري إلى “أوهام المسرح”! وبذا وضع الجابري حجابًا من اللغة بين المفاهيم الصحيحة لأصنام بيكون وبين إدراك القارئ العربي، فضاع المعنى على هذا الأخير وظلت الأصنام النظرية خافية على عقولنا المسطحة! وحسبك بهذا النوع من الترجمة جريمة!

ولما كانت عبادة الأصنام هي جوهر الجاهلية اكتشف سيد قطب أننا في جاهلية، ولما صرح بذلك ثارت الغوغاء واحتجت الدهماء: سيد قطب يكفر المجتمع. المجتمع يعبد أصنامًا خفية ويعتقد أنه من الفرقة الناجية، ولا يستغرب شيء من هذا، لأن من خصائص الانسان الجاهلي عدم إدراكه أنه في جاهلية. عدم ادراكنا أننا في جاهلية من “قصر النظر”، الذي اكتشفه واستغله ابشع استغلال لورنس العرب، قبل مائة سنة.

 وإذا كان للإنسان الجاهلي في الجاهلية الثانية عذره لأن الأصنام خفية/نظرية، فما عذر المثقف الذي يفضل أن يظل شيطانًا أخرسًا وهو يقرأ، بالإضافة إلى كل ما سلف، قول نيتشه: “الأصنام أكثر مما يظهر في واقع العالم”!

There are more idols than realities in the world.

أرجو أن يكون القارئ قد توقف عند الأصنام كقاسم مشترك بين مفكرين من ملل شتى وعبر قرون طويلة (بن نبي، لورنس، بيكون، نيتشه) كما أرجو أن يكون قد تساءل عن سبب أن يكون الوحيد بينهم من المسلمين هو مالك بن نبي. والاجابة لا تحتاج لكبير جهد، فمالك بن نبي مثقف حقيقي، أما غيره من أهل العربية فأغلبهم سفسطائيين، يأكلون على كل الموائد، ويتبعون كل ناعق، وليس لديهم ما يؤهلهم لطرق الموضوع الذي سأل إبراهيم الخليل ربه أن يجنب أبنائه عبادته (الأصنام).

المسئول عن هذه البلبلة هم المثقفون عمومًا، ومن اشتغل منهم بالترجمة على وجه الخصوص. وأظن أن إدراك هذه الحقائق هو ما جعل الشيخ محمد عبده يقول:” لا يمكن لأحد أن يدعي أنه على شيء من العلم يتمكن به من خدمة أمته ويقدر الدفاع على مصالحها كما ينبغي إلا إذا كان يعرف لغة أوربية”.

وإذا كان الشيخ محمد عبده قد اعتبر أن تعلم لغة أجنبية من لوازم القدرة على خدمة الأمة، فأنا أنصح به كل قارئ يود الحفاظ على سلامة عقله من عبث المترجمين والمدلسين، كذلك النوع من المترجمين الذي ترجم كتاب محمد اقبال Reconstruction of Muslim Thought إلى “تجديد الفكر الديني في الإسلام” بينما الترجمة السليمة هي إعادة بناء الفكر المسلم أو الإسلامي. ليس من حق المترجم التصرف فيما لا يملك: (أفكار المؤلف). تصرف المترجم في أفكار المؤلف ليس اجتهادًا بل خيانة.

في ضوء ما سلف لا بد لمن أراد ولوج حقائق عالم الأفكار من التسلح بأكثر من لغة أجنبية، أما من أراد دراسة تاريخ الأفكار أو التخصص فيه فلابد أن تكون الاغريقية واللاتينية من مكتسباته المعرفية وادواته العلمية، فبدونهما يظل البحث قاصرًا عن بلوغ الهدف وربما ظل الباحث معاقًا فكريًا طوال حياته ليس بسبب أخطاء المترجمين، بل بسبب جرائمهم العمدية  عندما يتدخلوا، وبشكل فج، في تغيير العناوين وقلب المصطلحات.

هل يجوز  اتهام المثقف أو المترجم بالخيانة؟-28/1/2023

عندما كتبت عن “خيانة المترجم” جاءتني عدة رسائل تعترض على استخدام مصطلح “الخيانة” في وصف عدم دقة الترجمة، وأهمها رسالة نجيب الحراري التي جمعت معظم الاعتراضات. ولذا رأيت نشرها هنا وردي عليها، تمهيدًا للكتابة عن العلاقة بين النقد والتجريح. واليكم فيما يلي ما كتبه الحراري وردي عليه.

 نجيب الحرار:

استاذ محمد هل تعتقد ان كلمة خيانة و صف دقيق للموضوع وانت رجل القانون الذي يدرك ان الخيانة تهمة وفعل يعاقب عليه القانون ؟!

اعتقد ان الترجمه في مواضيع الفكر تخضع لخلفية المترجم الفكريه فمثلا فرنسيس بيكون يتكلم عن الاصنام الذهنيه واشارته لداريوش شيغان عن اصنام القبيلة واصنام المسرح واصنام الكهف و غيرها..… هي تسمية مبادله في بين اواهم الذهن وفكرة الصنم .. ما اقصده ان المبادلة في الترجمه احيانا تعبر عن خلفية المترجم الفكريه وهذه يجب ايضاحها وتبيانها عند قراءة من نقرا له وهذا لا يعني من وجهة نظري تزوير او خيانة بقدر ما هو تحيز وانتماء وان كان هذا التحيز والانتماء مرفوض عندي مع العلم انه لا يوجد احد موضوعي عندما نتكلم ونعبر عن افكارنا..

قرات الجابري ولا اعتقد انه خائن وان كنت لا ارى انه يعبر عني في الكثير مما ذهب اليه.. فالجابري يملك ناصية اكثر من لغه وهو مفكر وصاحب مشروع لا يخفى على كل متابع للساحه الثقافيه فمن الانصاف ان نستحضر خلفيته و تحولاته الفكريه فيما ترجم او ذهب اليه من وجهة نظري.. هذه نقطة اولى

النقطة الاخرى والاخيره هي: من وجهة نظري ان بعض المصطلحات عندما تطلق او تكتب خاصة في النقاش او الكتابة الفكريه مثل مصطلح الخيانه اعتقد ان ذلك لا يثري الموضوع بقدر ما يعقده فهذه المصطلحات مكانها ربما الدعايات الانتخابيه المضاده او ساحات المحاكم وهي احد اكبر مفردات قاموس السلطه المطلقه التي عانينا منها جميعا للاسف..

دمت سالما من كل سوء..

محمد خليفة

في اللغة الانجليزية الخيانة لها مفردتان: Treason, Betrayal

والذي قصدته أنا هو Betrayal ولكني لا املك لا الوقت ولا القدرة على شرح كل الحضارة الغربية كما أفهمها أنا ولا يفهمها غيري. فهمي أنا للحضارة الغربية من خارجها، أما غيري فلا ادري كيف يفهمها، ولكن الغالب أنه جزء منها.

على كل حال كلمة Idol الانجليزية و Idole الفرنسية لا تحتاج لأكثر من ترجمة واحدة وهي الصنم، فلماذا تحاشى شاهين والجابري ذلك؟

بالنسبة لشاهين قد تكون المهمة أكبر من فهمه للأمور وقدراته، لأن الفصل الذي تحدث فيه لورنس عن الأصنام عنوانه التوحيد Monotheism ، فمن الأولى بالحديث عن التوحيد شاهين أم لورنس؟ ومن الذي تهدد مستقبله الأصنام: شاهين أم لورنس؟ التفاوت بين شاهين ولورنس ليس في العقيدة فقط وإنما في القدرات. لورنس يمثل الحضارة السائدة، وشاهين يمثل الحضارة البائدة.

وأما الجابري فهو عربي العقل، والعربي بوسعه التعايش مع الاصنام، ومنها “العقل”! وعندما يكون التخاذل أمام مصطلح من النوع الذي ظهر عند شاهين والجابري، فليس له من وصف عندي غير الخيانة، إلا أن اغير اللغة التي اكتب بها، وهذا غير وارد عندي —الآن على الأقل— لأن مشكلة الأصنام ظاهرة عربية يعلمها الانجليزي فقط، فلماذا اكتب للإنجليزي عما يعرفه، واترك الجاهل يتخبط في جهله وجاهليته في بلاد المسلمين؟

تخاذل المترجم في مواجهة الأصنام!-28/1/2023

عندما كتبت “خيانة المثقف” و”خيانة المترجم” ثارت اعتراضات أهمها أن idol في الإنجليزية و  idole في الفرنسية لا تعني بالضرورة “الصنم”! وسآتي من الكتابات الغربية بالشواهد المثبتة لأن المقصود من المصطلحين في الفكر الغربي هو الفكرة-الصنم الذي يُعبد في الجاهلية الثانية/المعاصرة مثلما كان الصنم الحجري يعبد في الجاهلية الأولى/القديمة. وما غفلة القارئ العربي عن هذه الحقيقة إلا نتيجة من نتائج تخاذل المترجم العربي في مواجهة أصنام الحداثة. وأنا استخدم مصطلح التخاذل حتى لا استخدم مصطلح آخر.

أولاً. ذكر الأصنام في الفكر الغربي.

عندما وضع هوبس “نظرية الدولة” قال عنها أنها “عمل فني” work of Art. ثم جاء نيتشه بعده بقرنين من الزمان فسماها “الصنم الجديد” The New Idol. وكان نيتشه أوضح رؤية من الكثير من المفكرين العرب والمسلمين عندما قال: “الأصنام أكثر مما يظهر في واقع العالم”!

Idols are more than realities in the world

ثم رفع نيتشه مستوى التحدي وقال إنه سيتفلسف بالمطرقة، فهل يكفي هذا لأثبات أن الحديث يتعلق بأصنام الفكر؟ أم أن نيتشه الذي قال “تهشيم الأصنام هي حرفتي” يريد أن يهشم الهواء؟

ويستعير لورنس العرب تصنيفات بيكون للأصنام لتحليل مستوى الذين قاد ثورتهم، ومزق أمتهم، قبل مائة سنة فقال عنهم: “لم يخترعوا نظامًا فلسفيًا، ولا ميثولوجية معقدة. إنهم يشقون طريقهم بين أصنام القبيلة وأصنام الكهف؛ أما أصنام المسرح وأصنام السوق فهي ليست في مدى نظرهم.”

They invented no system of philosophy, no complex mythologies. They steered their course between the idols of the tribe and cave: those of the theater and market-place were not within their sight.

العرب أكثر تخلفًا من الاغريق في عصر الأسطورة، هذا هو ما يقصده لورنس.  ومازال العرب يجهلون أصنام الفكر، لأن الأوربي لم يتكرم عليهم بالترجمة الصحيحة، وليس في مصلحته ذلك، أما المترجمين العرب فمازالوا في ريبهم يترددون!

ومن غرائب الحضارة المسيحية-الغربية في العصور الوسطى أنها اتهمت المسلمين بعبادة الأصنام، وأشاعت أن المسلمين في مكة كانوا يعبدون صنمًا اسمه أبولوـــ في مكة وليس في مكان آخر! وقد جاء كتاب نورمان دانيال (الإسلام والغرب. صناعة صورة) مليء بالشهادات المخزية على افتراءات اوربا في حق المسلمين، حتى أن الرجل بدأ باعتذار عن الإساءات التي لن يطيقها مسلم، ولاسيما في حق النبي عليه الصلاة والسلام. ومهم في الكتاب بذات القدر تعريف دانيال لعبادة أصنام الفكر على النحو الآتي:

“عبادة الاصنام يمكن أن تكون وصفًا لعبادة البشر لفكرة خاطئة بحسبها الإله، لكن ذلك لا يعني على وجه الخصوص عبادة اصنام مادية.”

Idolatry may always be used (in strict theology correctly) to describe any mistaken idea of God that men may worship, but that it does not then mean in particular the worship of physical idols.

(Norman Daniel, “Islam and the West. The Making of an Image”, Oneworld-publications, 2003, p. 343)

لقد امتلأ عالم المسلمين بأصنام الفكر دون أن يجرؤ مترجم واحد -فيما أعلم- على ترجمة مصطلح Idols في اللغات الأجنبية إلى “الاصنام” في اللغة العربية، لا لوجه الله ولا للأمانة العلمية التي شهدها في الغرب ولم يجرؤ على نقلها للمساكين الذين عولوا عليه عندما أرسلوه للدراسة في اوربا. ومن سوء حظ المترجمين أن المصطلح هو نفسه تقريبًا في اللاتينية والفرنسية والانجليزية. وهذا دليل تخاذل وليس قصور أو قلة علم أو التباس في المصطلحات.

ثانيًا. تخاذل المترجم العربي.

عبد الله العروي، الذي يشكو مر الشكوى من عبث المترجمين ببعض كتبه، قال في نقد ريمون آرون “كل منا ينحت صنمًا يعبده لأسباب ليست دائمًا منطقية وإن كانت شريفة”! العروي يعرف إذن أن أصنام الفكر تنحت كما كانت تنحت الأصنام الحجرية في الجاهلية الأولى، فهل نصح أمة محمد بالخصوص… هل حذر؟ … هل أنذر؟

لا شيء من ذلك للأسف! وسأترك لسلامة تقديركم وصف موقف العروي هذا.

محمد عابد الجابري، من المؤمنين بصنم أسمه “العقل الكوني”، ولذا ترجم أصنام فرانسيس بيكون إلى الأوهام حتى لا يتحطم صنمه المفضل من ضمن الأصنام التي ستتحطم إذا استيقظ المسلم. يقول الجابري “التفكير في العقل أسمى دون أدنى شك من التفكير بالعقل”! “التفكير بالعقل” قدرة بشرية، أما “التفكير في العقل” فهو التفكير في “العقل الكوني” بما هو إله. الجابري مسلم دون أدنى شك، ومجمل نقدي له مسألة واحدة: عدم اكتراثه لأصنام الفكر، وما يمكن أن تحدثه في عالم المسلمين.

لقد هشم الجابري صنم اسمه “العلمانية”، وهو ما أدخل جورج طرابيشي واتباعه في حالة هستيريا جماعية، لكنه لم يتوقف عند تصنيم “العقل” بالرغم من أن الكتابات الفرنسية عن الموضوع معروفة ومنها كتاب مشهور عنوانه: Idolatrie de la reason ويمكن ترجمته إلى “صنمية العقل” أو “عبادة العقل”!

أما ما لا يغتفر لكاتب من وزن الجابري فهو ترجمته للأصنام في كتاب بيكون “الأرغانون الجديد” إلى “الأوهام” في كتابه “مدخل إلى فلسفة العلوم” فكانت فقرة بيكون كالتالي:

Idols of the tribe, idols of the den, idols of the market, idols of the theater

وكانت ترجمة الجابري لها كالتالي: أوهام القبيلة، أوهام الكهف، أوهام السوق، أوهام المسرح. ترجمة Idols في عبارة بيكون ولورنس إلى شيء آخر غير “الأصنام” تصرف يلغي كل معارف أوربا في الموضوع، ويحول المساكين، قراء العربية فقط، إلى عميان لا يرون اسهامات المفكرين الغربيين الذين استشهدت بهم فيما سبق من حديث عن أصنام الفكر.

وفي هذا المسلك -المتبع حتى الآن- تعسف لا مبرر له إلا عدم القدرة على معالجة تعقيدات الموضوع، وهو ما لا يلام عليه السباك أو النجار الذي لا يكتب أمام اسمه أ. د.

وعندما يخرج التعليم في خمس بلدان عربية (العراق، سوريا، ليبيا، اليمن، الصومال) من التصنيف العالمي، يحق لنا أن نسأل عن قيمة هذا التعليم، وقيمة الألف والدال التي أصبحت أمام اسم كل من هب ودب!

مشاركة :

Telegram
WhatsApp
Email
Print

مقالات أخرى :

أزمة الهوية والهوية المضادة

سأتناول في هذه الورقة أزمة الهوية التي ولدت منها الهوية الليبية والهويات النظيرة (تونسية، تشادية، جزائرية… إلخ)، والتي لا أراها هويات أصيلة وإنما هويات مضادة.

دين بدون دولة!

حال المسلمين اليوم شبيهة بحالهم قبل الهجرة، وفيما عرف تاريخيًا بالمرحلة المكية. في تلك المرحلة كان المسلمون تحت رحمة الكفار ومحلاً لاضطهاد المشركين، لأنهم في