سأتناول في هذه الورقة أزمة الهوية التي ولدت منها الهوية الليبية والهويات النظيرة (تونسية، تشادية، جزائرية… إلخ)، والتي لا أراها هويات أصيلة وإنما هويات مضادة. وسينصب النقاش هذه المرة على ظهور أزمة الهوية، أما الهويات البديلة أو المضادة فستكون محل النقاش في المرات القادمة.
- ظهور الأزمـة.
في منتصف القرن الماضي افتتح مركز ثقافي إسلامي بفرنسا، وكان من المنتسبين إليه د. محمد حميد الله (من أصول هندية) و مالك بن نبي (من الجزائر الفرنسية). و كما هي العادة، كان الانتساب يبدأ بملء استمارة تدون فيها تفاصيل المنتسب:(الاسم، تاريخ الميلاد، الجنسية…إلخ). أمام فقرة الجنسية كتب محمد حميد الله “مسلم”، أما مالك بن نبي فقد كتب “مستَعمَر” (Colonisé)!
“مسلم” و”مستعمَر” لا توجدان على قائمة الجنسيات المعتمدة في عالم اليوم. هذه هي أزمة الهوية كما تمثلت في تجربة علمين من أعلام المسلمين في القرن العشرين!
وكانت الحرب العالمية الأولى شاهدًا على انفجار الأزمة في ضمير الأمة، و في ميادين القتال في ذات الوقت. لنتذكر فقط أنه خلال الحرب العالمية الأولى قاتل أحمد الشريف مع السلطان العثماني ضد الانجليز على الحدود الغربية لمصر، و قاتل الشريف حسين ضد ذات السلطان مع الانجليز في جزيرة العرب. نظرياً؛ كان الشريف حسين و أحمد الشريف أعداء في الحرب العالمية الأولى، و كان من الممكن أن يتقاتلا لو أنهما التقيا على واحدة من الجبهات التي دارت عليها رحى الحرب. الاختلاف بين موقفي الرجلين (أحمد الشريف و الشريف حسين) نابع من الاختلاف بين عالمين وهويتين: الاسلامية والقومية.
و هكذا شهدت الحرب العالمية الأولى تزامن مشهدين: مشهد عالم يلفظ آخر أنفاسه ( و هو عالم الهوية الإسلامية الجامعة) و مشهد عالم يولد ( و هو عالم الهوية القومية و الدولة الوطنية المفرقة)، و هو ما سأتناوله من خلال الموقفين المتباينين لأحمد الشريف و الشريف حسين.
أ) موقف أحمد الشريف. مثلت مشاركة المسلمين على الجبهتين في الحرب العالمية الأولى تمزقاً على المستوى النفسي الذي وحدته الفكرة الإسلامية حتى ذلك الحين. خير شاهد على ذاك التمزق الأليم هو موقف أحمد الشريف الذي سأله محمد أسد عن سبب الخطوة الانتحارية المتمثلة في الهجوم على الإنجليز على حدود مصر الغربية بمجاهدي السنوسية الذين كانوا يواجهون الايطاليين في برقة؛ فكان رد أحمد الشريف كالتالي:” يخيل إلي أحياناً أنني أخطأت عندما باليت بنداء استانبول… ألم يكن ذلك، ربما، بداية النهاية، لا بالنسبة إلى عمر[المختار] فحسب، ولكن بالنسبة إلى السنوسيين جميعاً؟…. ولكن كيف كان يتسنى لي أن أفعل خلاف ذلك عندما سألني خليفة المسلمين المعونة؟ هل كنت محقاً أو كنت مجنوناً؟ ولكن، من غير الله يستطيع أن يقول عن الإنسان إنه محق أو مجنون إذا لبى نداء ضميره؟”
كان أحمد الشريف يلبى نداء استانبول في الظاهر؛ لكنه في الواقع كان يلبي نداء ضميره!
ما هي بنية هذا الضمير؟ ما هي مكوناته؟
وحدة الأمة من وحدانية الله! و لا يمكن التفريط في وحدة الأمة إلا إذا جعلنا مع الله آلهة أخرى تبرر التخلي عن الدين و خذلان المسلمين! هذه هي مكونات الضمير الذي حمله أحمد الشريف بين جنبيه!
لم يكن السنوسيون يقاتلون لأجل برقة و لا من أجل طرابلس؛ ومن لديه قدرة على مراجعة أدبيات عمر المختار فليفعل، وسيجد أن عمر المختار و صحبه كانوا لا يضيعون فرصة للقول:”نقاتل لأجل ديننا و وطننا”. يأتي الوطن ثانياً في الترتيب، و بعد الدين الذي بحفظه يحفظ المسلم نفسه و ماله و عقله. بهذا الإيمان قاتل السنوسيون الفرنسيين في تشاد قبل قتال الايطاليين في برقة، ثم قاتلوا الانجليز في مصر والإيطاليين خلفهم في برقة، دون تردد أو وجل. وعندما قاتلوا هنا أو هناك لم يكن قتالهم من أجل النفط والغاز في البر، ولا من أجل الأسماك في البحر. لقد قاتلوا دفاعاً عن الإسلام ودار الإسلام. ولم يكن هناك مجال للمزايدات أو المناقصات؛ لقد دفعوا أغلى الإثمان(الأرواح والأعراض والأموال) في لا شيء دنيوي. لم يكونوا مرتزقة، ولم يقاتلوا إلا رجاء الله واليوم الآخر، ولم يستشهدوا إلا في سبيل الله، الذي عن وحدانيته تتفرع وحدة الأمة المسلمة!
وكما توقع أحمد الشريف لفظت السنوسية آخر أنفاسها باستشهاد عمر المختار، و تحولت إلى مجرد ذكرى طيبة، و صفحة مشرقة في تاريخنا المعاصر. وبعدها بقليل تحولت الأمة إلى شعوب متناحرة في ظل الهوية المضادة:(القومية والدولة الوطنية) التي كان رائدها الشريف حسين وبنيه.
ب) موقف الشريف حسين. في أتون الحرب العالمية الأولى أعلن الشريف حسين الثورة التي عُرفت باسم “الثورة العربية الكبرى” سنة 1916، وكان هدفه من وراء الثورة إنشاء دولة عربية ضداً على “الخلافة العثمانية” التي دخلت الحرب إلى جنب ألمانيا وحلفائها. كان فيلسوف الثورة العربية، ومدبرها الاستراتيجي، هو العقيد لورنس المشهور بـ”لورنس العرب”. ومن يقرأ مذكرات لورنس المعنونة “أعمدة الحكمة السبعة”، يرى أن لورنس لم يكن مجرد جاسوس انجليزي، كما يقال، و إنما كان عقلاً فذا ومثقفاً، من طراز عال، وضع إمكانياته في خدمة بلاده في لحظة من أخطر لحظات تاريخها. ويظهر العمق الثقافي للورنس في قوله عن العرب الذين قادهم أنهم كانوا “يشقون طريقهم بين أصنام القبيلة وأصنام الكهف أما أصنام المسرح وأصنام السوق فلم تخطر لهم على بال”.
هذا التصور الجديد للأصنام و تقسيمها (إلى أربعة أصناف) يعود إلى فرانسيس بيكون وكتابه “الارغانون الجديد” الذي ظهر في القرن السابع عشر، وكان هدفه التأسيس لمنهج علمي جديد، يتجاوز جملة الأوهام التي تقوم مقام الأصنام في الأنموذج البدائي.
وفقاً لهذا التصور الجديد (الذي لم يخطر للعرب على بال) يمكن تصنيف “الثورة” و”الدولة” في خانة أصنام المسرح (السياسي). في هذا السياق كانت وحدة الأمة أكبر القرابين المقدمة على مذبح “الثورة العربية الكبرى” التي أرادت تأسيس دولة عربية على رأسها ملك عربي، أو ملوك عرب من السلالة الشريفة! وبعد الحرب العالمية الثانية كانت “الدولة الوطنية”، الصنم الذي نُصب ليكون أساس الهوية البديلة، أو الهوية المضادة للهوية الأصلية (الإسلامية) التي دافع عنها المجاهدون بدماء حياتهم. لقد أضاعت الأمة مائة سنة في التخبط والتردد بين “الثورة” و”الدولة”، اللتان كانتا مجرد سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءَ….
- التشكل الكاذب.
لا أدري إن خطر ببال القارئ يومًا أن الدولة العربية والدولة العبرية قد ولدتا من رحم الحقبة الاستعمارية: (الأردن وإسرائيل تكونتا في رحم الامبراطورية البريطانية، بينما ولدت سوريا ولبنان من رحم الإمبراطورية الفرنسية! أما ليبيا فقد تكونت -اسمًا ومسمى- في رحم الفاشية الإيطالية).
مولد الدولتين (العربية والعبرية) يعبر عما يسميه شبنجلر “التشكل الكاذب”، وهو مفهوم نقله من دراسات طبقات الأرض (الجيولوجيا) إلى دراسة نشوء الحضارات. الحضارة التي تتكون على هامش حضارة أخرى تمثل عند شبنجلر تشكلًا كاذبًا لفقدها عنصر الأصالة وطابعها الظرفي.
وسأنتقل بمفهوم “التشكل الكاذب” من دراسة نشوء الحضارات إلى دراسة نشوء الدول، وأخص منها الدولة العربية التي ولدت، بين الحربين وبعد الحرب العالمية الثانية، لتمثل تشكلاً كاذبًا على هامش الحضارة الغربية وبفعلها. وعن هذا التشكل الكاذب تولدت هوية مضادة للهوية الأصلية (الإسلام). من هنا كانت لنا مصلحة في مراجعة تاريخية الدول العربية قديمًا وحديثًا.
أ) تاريخية التشكل الكاذب.
في الزمن الغابر كانت دولة الغساسنة تمثل تشكلًا كاذبًا -حسب مفهوم شبنجلر- لأنها دولة عربية على هامش الإمبراطورية الرومانية/البيزنطية. وكانت دولة المناذرة في تلك الحقبة تشكلًا من ذات النوع، لوجودها على هامش الإمبراطورية الفارسية.
الدول العربية المعاصرة نسخ مكررة من دولتي المناذرة والغساسنة لأنها نشأت على هامش الحضارة الأوربية وبفعلهاــــ التاريخ يعيد نفسه! هذه المسوخ المعاصرة أعطت سكانها هويات متفرقة (ليبية ولبنانية وكويتية وبحرينية وصومالية.. إلخ)، وهي ليست هويات قُطرية وحسب، بل هويات مفرّقة ومختلقة قصدًا لتكون ضدًا على الهوية الجامعة (الإسلام).
وتتمثل مشكلتنا/مأساتنا الرئيسة في عدم ادراكنا لصدور هويتنا الحالية عن تشكل كاذب: (دولة؛ التبعية خاصيتها المميزة)! وهذه الحقيقة، التي لا نراها لطول عهدها مقارنة بقصر ذاكرتنا، هي ما سيكون محل البيان في هذا العرض الموجز.
في سنة 1899 سلخت بريطانيا السودان من مصر مثلما سلخت مصر من السلطنة العثمانية قبله. وقد تم السلخ في خطوتين في كلتا المرتين. مصر تم سلخها من السلطنة العثمانية باتفاقية لندن سنة 1840، التي أكدت على استقلال مصر في ظل السيادة العثمانية، ثم اكتمل السلخ مع بداية الحرب العالمية الأولى سنة 1914 عندما تم إعلان مصر محمية بريطانية.
وفي الاثناء كان سلخ السودان يجري على قدم وساق، إذ بدأ السلخ باتفاقية كرومر-بطرس التي وضعت السودان تحت حكم بريطاني-مصري مشترك سنة 1899. واكتمل السلخ بقرار سوداني بالاستقلال سنة 1956. وهكذا ولدت هوية مصرية سلخًا من الهوية الإسلامية، وبذات الإجراء (السلخ على خطوات) ولدت هوية سودانية إلى جانب الهوية المصرية.
ولم تتوقف المأساة عند ذاك الحد فقد سُلخ جنوب السودان من شماله بتمويل ليبي، ولو لم يمت القذافي لتم سلخ دارفور وبقية أقاليم السودان واحد بعد الآخر. ليس صدفة أن تفقد الحركات الانفصالية في السودان تأثيرها بموت القذافي. والسؤال الذي على أنصار القذافي الإجابة عنه هو: لمصلحة من كان القذافي ينفق أموال الخزينة الليبية على تقسيم السودان؟
ولم يختلف الحال في دار الغرب الإسلامي، حيث أنشأ عبد الكريم الخطابي مكتبًا لتحرير المغرب العربي (تونس والجزائر والمغرب) بالقاهرة سنة 1947، وشرع في تكوين جيش مغاربي لذاك الغرض، غير أن فرنسا كانت أسرع إلى التفاهم مع بورقيبة ومحمد الخامس على استقلال تونس والمغرب. وهكذا نالت تونس والمغرب استقلالًا كاذبًا، ليدفع الشعب الجزائري مليونًا من الشهداء ثمنًا للحاق بتونس والمغرب، ولتولد هويات مغاربية متنافرة، في صورة تشكل كاذب لثلاث دول على هامش الهيمنة الفرنسية.
وفي الشرق لم يكن الحال أفضل من الغرب فقد انفصلت باكستان عن الهند سنة 1947، ثم انفصلت بنغلاديش عن باكستان سنة 1971. ومن الجدير بالذكر أن أثنين من كبار المسلمين في الهند (أبو الأعلى المودودي وأبو الكلام آزاد) كانا ضد انفصال الباكستان عن الهند لأنه في غير صالح المسلمين. وضاعت الهند على المسلمين بسبب تشكل كاذب اسمه باكستان الغربية وباكستان الشرقية. ثم تحولت باكستان الشرقية إلى بنغلاديش، ولازال إقليم كشمير محل نزاع بين الهند وباكستان. كان بالإمكان أن يكون المسلمون أربعون بالمئة من سكان الهند، والكتلة الأكثر أهمية فيها.
المأساة أن أحدًا لم يتوقف بشكل جدي أمام ظاهرة الهوية المضادة التي تفرعت عن ظاهرة “التشكل الكاذب” في القرن العشرين. وما اكتبه أنا هنا مجرد تنبيه للظاهرة، ظاهرة الهوية المضادة الناشئة عن تشكل كاذب.
ب) نهاية التشكل الكاذب.
الدولة العربية والدولة العبرية شقيقتان بالمولد، ولهما عدو مشترك هو “الإسلام السياسي”. هذا الإسلام السياسي هو الذي مسح دولتي المناذرة والغساسنة، ومسح معهما الامبراطوريتين الفارسية والرومانية قديمًا. وهذا الإسلام هو الذي سيمسح التشكل الكاذب في تسلسل يشبه تساقط أحجار الدومينو في عصرنا الحاضر. وأنت تحتاج أن تكون بموسوعية وعمق الشيخ محمد الغزالي لترى هذه الرؤية. يقول الشيخ رحمه الله: “إن زوال إسرائيل قد يسبقه زوال أنظمة عربية عاشت تضحك على شعوبها، ودمار مجتمعات عربية فرضت على نفسها الوهم والوهن..”!
إذا نظرت إلى خارطة المنطقة، والشرق الأوسط تحديدًا، فسترى الدول العربية تشكل ما يشبه بيت العنكبوت حول دولة بني إسرائيل. وخلف بيت العنكبوت هذا يتمترس التشكل الكاذب الصهيوني، الذي يرى في نفسه الإمبراطور المؤهل لإدارة مؤسسات الوهم والوهن في المنطقة. الشعب الوحيد الذي نجى من التشكل الكاذب هم الفلسطينيون، ولذا لازالوا يقاومون، ولم يصبهم الوهن الذي أصاب ساكنة الدول العربية.
لتصفية المقاومة الفلسطينية عقد مؤتمر في أوسلو لخلق تشكل كاذب فلسطيني تحت مسمى حل الدولتين، وكان الغرض من هذا “الحل” التمكين لسلطة فلسطينية تفرض الوهم والوهن على الضفة والقطاع. لقد عرض الصهاينة على مصر تسليمها غزة لأنها نجحت في قمع الأصل الذي عنه تفرعت حركة المقاومة الإسلامية، لكن “قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون”!
التشكل الكاذب (بيت العنكبوت) وحدة واحدة ويحقق مصلحة جهة واحدة هي دولة بني إسرائيل، فإذا عبّر بيت العنكبوت عن وهنه يومًا ما وسقط، فلن يتأسف عليه أحد إلا صاحب المصلحة، ولا عزاء للمغفلين!
3- مواسم التشكل الكاذب.
أزمة الهوية من مواليد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى. وقد تجلت مظاهر الازمة بوضوح في أفكار أعلام كبار من نوع أحمد حميد الله ومالك بن نبي، وهو ما بينته في رقم (1) من هذه السلسلة.
وظهور ما يسمى “الدولة الوطنية” هو المعبر عن ظهور الهوية المضادة بين الحربين (1918-1939) وبعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945). في هذا الموسم ظهر التشكل الكاذب في صورة ما يسمى “الدولة الوطنية”: “مملكة العراق” و”مملكة آل سعود” سنة 1932.
هذه “الدولة الوطنية” تمنح سكانها -وليس مواطنيها- جنسية (عراقية، سعودية، ليبية.. الخ). و”الجنسية” بدعة من أربع بدع مضادة للهوية الإسلامية الجامعة، ومفرقة للامة الإسلامية الواحدة! الثلاثة الأخرى هي: “الحدود”، و”التأشيرة”، و”البدون”!
وبعد الحرب العالمية الثانية تعددت “الدولة الوطنية” حتى أخذت صورة الظاهرة في المشرق والمغرب. وهذا هو الموسم الأول للتشكل الكاذب. ولا زال هناك موسم آخر قيد الانتظار، وهو تشكل/ظهور “دولة كردستان” و”دولة تامزغه”! وهذا الموسم الأخير سيكون الموسم الثاني، إن تحقق!
الهويتان الكردية والأمازغية هويتان مضادتان للهوية الإسلامية، وإذا تحولتا إلى دولتين فإن عدد الدول الإسلامية سيصبح ستين دولة. ومع ذلك لازال هناك من يتحدث عن “السنة والجماعة”! “الدولة الوطنية” هي التشكل الكاذب الذي يدحض وهم “الجماعة”! وسنة محمد عليه الصلاة والسلام لا تسمح بأن يكون المسلمون ستين جماعة/دولة.
وإذا استقرت واستمرت الأمور على هذا المنوال فقد نشهد مواسم أخرى وازدهار آخر لظاهرة التشكل الكاذب: تشكل “تارقي”، و”تباوي”، و”برقاوي”، و”زغاوي”. ولكن ليس في هذه الورقة متسع لأكثر من الموسمين: الأول والثاني.
أ) الموسم الأول.
في الحرب العالمية الأولى أبرمت بريطانيا ثلاثة عهود متناقضة؛ الأول مع الشريف حسين لإنشاء مملكة له وأبنائه في بلاد المشرق، والثاني مع فرنسا لاقتسام ذات المشرق، والثالث مع اليهود لأنشاء وطن قومي لهم في فلسطين.
ولما كانت “كلمة الغدر ليس فيها ما يكفي من القوة لوصف سلوك الانجليز” حسب وصف هنري ديجول (والد الجنرال) فقد احتاط الفرنسيون واليهود لأنفسهم، واستعد كل منهما لتنفيذ ما اتفق عليه مع الانجليز ولو بالقوة المسلحة، ولو بالإرهاب. أخذت فرنسا بلاد الشام بالقوة وكذلك فعل اليهود بفلسطين. وكانت قوة المكر تسير جنبًا إلى جنب مع قوة السلاح.
وإما العرب فقد أخذوا على حين غرة لعدم معرفتهم بأصنام السوق وأصنام المسرح، وهي من أقوى الأسلحة في الصراع الفكري. حسب إفادة لورنس “العرب يؤمنون بالأشخاص وليس المؤسسات”. اعتمادًا على ذلك عزل الانجليز ماكماهو تاركين المعول على عهوده (الشريف حسين) في الظلمة. وقد رأى لورنس في عزل ماكمهون الدليل على أن الغدر هو جوهر سياسة الانجليزية، وما فعلوه مع الشريف حسين عمل غير شريف ولكنه ليس استثنائيًا!
أخذ الفرنسيون بلاد الشام بقوة السلاح، وأخذت بريطانيا فلسطين انتدابًا، فعينت عليها مندوبًا ساميًا يهوديًا أسمه هربرت صموئيل، ليمهد الأرض للمستوطنين الذين سيعلنون دولتهم بعد الحرب العالمية الثانية.
الدولة اليهودية والدولة العربية المعاصرة شقيقتان ولدتا من رحم الحقبة الاستعمارية. وهم حلفاء في مواجهة عدو واحد: “الإسلام السياسي” ! كيف لا وهما الشقيقتان بالمولد المتحدتان في الصورة (تشكل كاذب)!
ب) الموسم الثاني.
وهذا الموسم مجرد حلم عند الأكراد والبربر/الأمازيغ. وقد يتحول هذا الحلم إلى كابوس مثلما حصل للسودانيين الجنوبيين الذين سأعالج فداحة موقفهم وما جروه على أنفسهم بالإنفصال عن الشمال المرة القادمة. أما هذه المرة فسأقف على أحلام القوميين من الأكراد والأمازيغ الذين يتوقون إلى هوية ناقضة للإسلام سيرًا على سنة اخوانهم من القوميين: العرب والترك والفرس.
أولاً. كردستان.
إذا وجدت بقعة في العالم يجوز أن نطلق عليها “ملتقى القوميات” فهي كردستان ( = بلاد الأكراد). في هذه البلاد تلتقي القوميات الفارسية والعربية والتركية لتشكل مطحنة للاكراد على مدى قرن كامل. الأكراد الذين من مصلحتهم رفع راية الإسلام (سيرًا على أثر صلاح الدين الأيوبي) رفعوا رايات بديلة (القومية والماركسية) وقاتلوا اخوانهم في سبيل هوية مضادة للهوية الإسلامية ومفرقة للقوميات الاربعة. وبينما تتناحر القوميات الأربعة أمنت المخابرات والحكومات الاجنبية صب الزيت على النار كلما خبت النار قليلاً. ويحلم الاكراد بتأسيس كردستان الكبرى بالتعاون مع الموساد، وهذا التعاون مكشوف منذ ستينيات القرن الماضي، ولكنه يبرر الآن بأنه أصبح موضة تتبعها معظم شقيقات إسرائيل سرًا وعلنًا! ودولة كردستان التي سيبنيها التحالف مع الموساد لن تختلف عن الدولة التي بناها الآنجليز للشريف حسين! وستكون لها ذات الوظيفة: حماية بيت العنكبوت!
ثانيًا. تامزغه.
إذا كانت دولة اسرائيل تمتد من النيل إلى الفرات، و كردستان الكبرى وراء ذلك، فإن تامزغة الكبرى ستمتد من الشاطئ الغربي للنيل إلى الشاطئ الشرقي للمحيط الأطلسي. والاتصالات جارية على قدم وساق مع الموساد لتحقيق ذلك. وقد يعجل التطبيع بذلك، ولذا كان القوميون من الأمازيغ واليهود والحكومات العربية حلفاء في مشروع التطبيع الذي عرقلته غزةبانتصارها مؤخرًا، وإلى أجل غير مسمى.
قبل مائة سنة كان الأمازيغ أفضل حالاً، لأنهم رفضوا الظهير البربري الذي أصدرته فرنسا سنة 1930، وكان له هدفان: الأول هو سحب البربر من نطاق تطبيق الشريعة واخضاعهم لأعرافهم، والثاني سحب القضايا العقارية من اختصاص المحاكم المغربية واخضاعها لمحاكم فرنسية. كان الهدف الأول للظهير هو سحب الهوية الإسلامية للبربر، بينما كان هدفه الثاني مصادرة أراضيهم. اسقط المغاربة الظهير بسلاح واحد: الهوية الإسلامية الجامعة.
في الوقت الحالي تخصص فرنسا ميزانيات ضخمة لخلق لغة أمازيغية من العدم، وبناء هوية قومية بديلة تفجر دار الغرب الإسلامي من داخله، ليصبح صورة مغاربية لكردستان. والمجهود الحربي على هذه الجبهة لم يتوقف منذ مائة سنة وتجتمع عليه حاليًا فرنسا ودولة بني اسرائيل. وما يحبط هذا المشروع حتى الآن هو الأمازيغ المتشبثين بهويتهم الإسلامية، الهوية التي أسست دولتان كبيرتان قديمًا (المرابطون والموحدون). ومما يزيد الشريف شرفًا أن أسد الريف ومؤسس جمهورية فيه من الأمازيغ. قاد عبد الكريم الخطابي أسود الوغى تحت راية إسلامية ليهزم أسبانيا مثلما فعل جده طارق بن زياد!
هذه الهوية الجامعة، وهذا التاريخ المشرف، يتنازل عنه البعض لدواعي قومية، مثلما فعل الشريف حسين عندما تحالف مع الانجليز. ومن سار سيرة الشريف حسين لن يحقق، في النهاية، إلا ما حققه الشريف حسين: دولة بحجم الأردن وظيفتها حماية بيت العنكبوت!
4) أوهام برقة.
من الإله الذي أعطى برقة حقوقًا ولم يعط مثلها لفزان؟!
برقة ليس لها حقوق ليست لبقية الليبيين! برقة عندها أوهام غير موجودة عند بقية الليبيين! وهذه الأوهام قد تخلق هوية برقاوية مفرقة لليبيين، وتكون بالتالي من الهويات المضادة، التي لا تخدم أحدًا غير أعداء برقة والأمة المسلمة التي تنتمي إليها برقة.
أوهام برقة مصدرها الفرق بين الذي لا يريد شيئًا والذي يريد اللاشيء! بكلمات أخرى: برقة لا تستطيع الوقوف من أزمتها موقفًا سلبيًا، موقف المستسلم للأمر الواقع، وهو موقف الذي لا يريد شيئًا! ولذا أخذت برقة موقف الذي يريد اللاشيء؛ وهذا اللاشيء هو ما ناله جنوب السودان عندما انفصل عن شماله! وهو ذات اللاشيء الذي ناله السودانيون عندما انفصلوا عن إخوانهم المصريين.
أولًا. الموقف المستحيل: موقف الذي لا يريد شيئًا.
في حديث مع أحد أصدقائي قبل سقوط القذافي بسنوات أعلنت عن استغرابي لاقتراح هذا الأخير تقسيم سويسرا ونيجيريا! وقد جاء استغرابي في صيغة تساؤل: ألا يخشى القذافي ان يأتيه من يقترح تقسيم ليبيا؟
وكانت إجابة صديقي صادمة: تقسيم ليبيا هو بالضبط ما يسعى إليه القذافي! وكل أمله أن يأتي من يقترح هذا التقسيم أو يطالب به، وهو يدفع باتجاهه بكل ما أوتي من مال ومكر!
هذه الكلمات كانت الإجابة الشارحة لكثير من شذوذ القذافي، ومن ذلك تمويله فصل جنوب السودان عن شماله. الليبيون الذين يلعنون الإمارات اليوم لدورها المخرب في ليبيا يجهلون أنها تقوم في ليبيا بما قام به القذافي في السودان: إنفاق أموال المسلمين على إعادة تقسيم المقسم! والإنفاق فقط يتم من أموال ليبيا والإمارات أما التخطيط لذلك والإشراف عليه فيتم في مكان آخر!
ولكن ما العلاقة بين مكر القذافي وعبثه ومطالبة بعض أبناء برقة بالنظام الفيدرالي أو الانفصال؟
البغض بين القذافي وبقية الليبيين متبادل لكن برقة تميزت بأنها كانت إمارة سنوسية يومًا ما، ويحلم الانفصاليون بان تعود للاستقلال من جديد. وزاد هذه الرغبة إلحاحًا عاملان؛ ظهور النفط، ونزق القذافي. تكتيكات القذافي معقدة وتقوم بشكل رئيس على الاستفزاز، الذي يحقق الهدف الاستراتيجي على المدى الطويل، وما استجابة برقة لاستفزاز القذافي والمطالبة بالفيدرالية وحتى الانفصال سوى الموقف الذي أخذته في غفلة عن تكتيك القذافي لتحقيق الهدف الاستراتيجي: (تقسيم ليبيا بعد تقسيم السودان).
وما الذي فعله القذافي لبرقة حتى تسير نحو تحقيق هدفه وهي لا تشعر؟!
من المواقف الصبيانية للقذافي في الثمانينيات قفله الحدود الليبية وجعل مطار طرابلس النقطة الوحيدة للدخول والخروج، الأمر الذي يجعل ساكن الحدود الليبية المصرية يأتي لطرابلس ليذهب للإسكندرية أو مرسى مطروح. وزاد من طين ساكنة برقة بلة أن القذافي منع الطيران من وإلى مصر بسبب تطبيع مصر مع الصهاينة. وهذا ضاعف مأساة ساكنة برقة القاصدين مصر، إذ أصبحت رحلة الإذلال لا تتطلب القدوم إلى طرابلس فقط، وإنما الذهاب إلى مصر عبر أحد المطارات الأوربية -غالبًا مالطا أو اليونان- وما يجر ذلك من عذاب للعائلات التي قد تحتاج ليومين بدل ساعتين للانتقال من ليبيا إلى مصر. وأنا أعلم أن مثل هذه التصرفات الخرقاء للقذافي لا يمكن أن تترك لدى البرقاويين أي شعور طيب تجاه طرابلس/العاصمة، التي أصبحت بفعل القذافي مصدر شقاء لليبيين وغير الليبيين.
ولكن العذاب والمهانة لم تقف عند هذا الحد إذ سجن المعارضون من أبناء الليبيين بالآلاف في طرابلس. وعندما يقدم أقارب هؤلاء من الشرق أو الجنوب للزيارة تتحول الزيارة إلى مهانة قاسية وإذلال عبثي تمارسه سلطات المعتقل. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد إذ قتل ألف ومئتي معتقل بدم بارد في سجن بوسليم (سنة 1996)، وهو ما جعل البرقاويين يشعرون بتضاعف المرارة تجاه طرابلس. وفي هذا الجو المقيت حُسب القذافي على طرابلس وليس على ليبيا، فأصبح القذافي الطرابلسي مضافًا إلى طرابلس ومآسيها الداء الذي لن تبرأ منه برقة إلا بالانفصال عن طرابلس، وطرد الطرابلسية من برقة!
ليس هنا مجال للحديث عن البرقاويين الذين رفضوا فكرتي الفيدرالية والانفصال معًا، ولكن لابد من التذكير بأن بعض البرقاويين اكتفى بالفكرة الفيدرالية، بينما ذهب آخرون حد المطالبة بالانفصال، وهو التذبذب الذي لم يقوي موقفهم. وفي الأثناء تم دعوة أحد أعضاء الأسرة السنوسية الكريمة لتقوية إحياء فكرة “إمارة برقة” القديمة، لكن الرجل انسحب سريعًا لأسباب لا أعرفها، لكنه ربما شعر بتهور أنصار المشروع وما قد يجره ذاك التهور من عواقب وخيمة، وعلى النحو الذي شاهده العالم فيما بعد.
أربعون سنة من عبث القذافي وعنفه الذي لا شبيه له إلا عنف غرتسياني، قضى على الفكرة الإصلاحية (السنوسية) في برقة لتعود برقة وسكانها إلى عصر ما قبل السنوسية. وفي هذا العصر السريالي أصبحت برقة تريد اللاشيء! ومما ينذر بأسوأ العواقب هو استجابة بعض الطرابلسيين للاستفزاز والمطالبة بالانفصال ردًا على موقف الانفصاليين في برقة، وهذا قد يحول البلاد كلها إلى لا شيء فعلاً!
ثانيًا. الموقف الوهمي: موقف الذي يريد اللاشيء!
عندما انفصل جنوب السودان عن شماله كان الجنوب يقع فوق بحيرة من النفط، وكان حلم الثروة يُستحث لدى الجنوبيين من الخارج، وكانت حرب الانفصال تمول من الخارج كذلك. وفيها تميزت ليبيا بتمويل ودعم الطرفين المتحاربين، الجنوب والشمال.
وبعد انفصال جنوب السودان تبخر النفط وأصبح دخل الإنسان في ذاك الإقليم المنكوب قرابة ثلاثمائة دولار في السنة، لتصنف دولة جنوب السودان من ضمن أفقر دول العالم، مع حرب أهلية تنفجر من حين إلى آخر. هذا هو اللاشيء الذي حصل عليه جنوب السودان! فهل تحصل برقة على مثله؟
الفيدراليون في برقة لا يقارنون مستقبل برقة بجنوب السودان، وإنما يبررونه بنجاح الفيدرالية في سويسرا والولايات المتحدة، غافلين عن أن السويسريين والأمريكيين لا يحلفون بالطلاق في الأمور السياسية، ولا يتكلمون لغة الزريبة1، كما يفعل بعض الليبيين الذين يعتبر تصدرهم المشهد السياسي من سخريات القدر!
لقد تنفس العنف في أكثر من مناسبة في برقة، ولأسباب تافهة (وظيفة ثانوية في صندوق الضمان الاجتماعي) أو لسبب غير معروف كما حصل في بنغازي مؤخرًا عندما قتل خمسة من الشباب في مواجهات قبلية وكان أحد أطرافها على الأقل كتيبة قبلية في شكل كتيبة عسكرية.
وقد جاء ما سلف بعد محاولة غزو طرابلس لأن المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط فيها، وكانت “الغنيمة” على بعد كيلومترات قليلة من قبضة “القبيلة”. مشهد الغزو في حينها لم يكن من مشاهد ما قبل السنوسية، وإنما كان من مشاهد ما قبل الإسلام!
ومأساة برقة المتولدة من أوهامها ليست في حاضرها فقط، بل قد تكون في مستقبلها كذلك، إذ قد يستيقظ الفيدراليون والانفصاليون يومًا على برقة محافظة مصرية، وعندها تصبح الهجرة إلى طرابلس حلم البرقاويين، الذين تدفق ويتدفق الكثير منهم على طرابلس الآن. وأنا أرحب بهم الآن وفي المستقبل لأن ليبيا بلادي وبلادهم ومن حق أي ليبي التنقل في ليبيا حيث شاء. ومن حق أي مسلم أن يتنقل في بلاد المسلمين حيث يشاء، وإن حالت الحدود والتأشيرات دون ذلك، لأن مصادرة الحق لا تلغيه.
أنا أتمنى فقط ألا يستجيب الطرابلسيون لاستفزاز الانفصاليين في برقة أو غيرها ويطالبوا هم أنفسهم بالانفصال، لأنهم قد يكتشفوا أنهم حققوا اللاشيء من حيث أرادوا أن يحققوا شيئًا. وقديمًا قال صاحب الحكمة:
عز الوطن في وحدة ترابه..كان الوطن ما تبوا خرابه!