حال المسلمين اليوم شبيهة بحالهم قبل الهجرة، وفيما عرف تاريخيًا بالمرحلة المكية. في تلك المرحلة كان المسلمون تحت رحمة الكفار ومحلاً لاضطهاد المشركين، لأنهم في مرحلة “ما قبل الدولة”، أو في “الجاهلية” بعبارة أخرى. كانت الهجرة هي الحدث الذي حوّل الواحة المسماة يثرب إلى “مدينة الرسول”، لتولد المدينة-الدولة لأول مرة في تاريخ المسلمين. كان النبي صلى الله عليه وسلم أول من بنى دولة على أساس تعاقدي: “البيعة” مع الأنصار و”الصحيفة” مع اليهود.
كانت البيعة عقدًا مبرمًا بين الله ورسوله والانصار؛ وبموجبها كان على الأنصار حماية النبي حتى يبلغ الدعوة، ولهم في المقابل الجنة. وللتأكيد على أهمية هذا الجانب التعاقدي، فيما يخص المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية، فالبيعة من أهم الفروق بين الجاهلية والإسلام.
أما على مستوى العلاقة بين المسلمين واليهود، فقد نصت الصحيفة على أن للمسلمين دينهم ولليهود دينهم. وبذا كان الإسلام أول نظام عالمي يسمح لأهل الكتاب بأن يكونوا “دولة داخل الدولة”، بحيث يستقلوا بمؤسساتهم التعليمية والقضائية تحت اشراف أحبارهم ورهبانهم.
ولم يتدخل الرسول صلى الله عليه وسلم في شئون أهل الكتاب، ولم يصطدم بهم إلا بعد أن خرجت الأمور عندهم على السيطرة وفي خرق واضح لبنود الصحيفة المنظمة للعيش المشترك في المدينة. وعندما فتح المسلمون العالم سمحوا لأهل الذمة بأن يحتفظوا بحرياتهم الدينية وبأماكن عبادتهم في مقابل التزام واحد هو الجزية، وهي ضريبة تؤدى في مقابل الحماية.
في المدينة-الدولة كان صلى الله عليه وسلم النبي المرسل، والقاضي بين المسلمين، وبينهم وبين غيرهم من ساكنة المدينة. وكان صلى الله عليه وسلم الحاكم السياسي الذي بيده قرار الحرب والسلم، ومن سلطاته المشروعة جمع الأموال وتوزيعها. وبعد تنظيم المدينة على هذا النحو أصبح المسلمون قادرين على الدفاع عن أنفسهم في جميع الحالات، بما في ذلك الحالة التي يكون فيها الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع.
ومع ذلك لم تكن البيعة الركن الوحيد في البناء السياسي للدولة الإسلامية، إذ كانت الشورى، وهي نقيض الاستبداد، الركن الثاني في هذا البناء. كانت المدينة قائمة على نظام ليس فيه من إله إلا الله، والعلاقة بين مكونات سكانها وحاكمها علاقة تعاقدية.
ولم يمت النبي حتى قال “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي”. وأول سنة سنها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، عند تمام بيعته، هي قوله “أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم”. وبذا تكون طاعة المحكوم للحاكم بقدر طاعة الحاكم لله. وقد سار الخلفاء الراشدون على البيعة والشورى حتى انقلبت الخلافة إلى ملك فقال معاوية: “ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصُومُوا ولا لتحُجُّوا ولا لتُزَكُّوا … إنما قاتلتُكُم لأتأمَّر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كَارِهُون”!
الكثير من الناس يعتقدون أن مصطفى كمال قد ألغى الخلافة سنة 1924، والذي ألغاها على الحقيقة هو معاوية بن أبي سفيان في القرن الهجري الأول. وقد أكد ذلك بشكل قاطع عندما نصب ابنه يزيد ملكًا بعده، وفي الأمة بقية من الصحابة والصالحين، ويزيد لم يكن من الصحابة ولا من الصالحين.
لقد دق معاوية أول مسمار في نعش الدولة الإسلامية مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم “لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة … أولها الحكم وآخرها الصلاة”. وكان الإمام مالك من ضحايا التعذيب الذي جعل الخلافة ملكًا يضطهد علماء من نوع إمام دار الهجرة. وفي هذا يقول ابن خلدون: “لما أفتى مالك رضي الله عنه بسقوط يمين الإكراه أنكرها الولاة عليه ورأوها قادحة في أيمان البيعة ووقع ما وقع من محنة للإمام”. كان الإكراه على البيعة في القرن الأول للهجرة التمهيد التاريخي لإلغائها رسميًا في القرن الرابع عشر من ذات التاريخ.
في القرن الرابع عشر للهجرة جاء مصطفى كمال ليدق آخر مسمار في نعش السلطنة العثمانية، وهي آخر دولة إسلامية قبل المرحلة الاستعمارية. وبزوال السلطنة العثمانية دخل المسلمون مرحلة “دين بدون دولة”. وفي هذه المرحلة تطلع كل من الشريف حسين والملك فاروق وموسوليني إلى أن يكون خليفة المسلمين أو حامي الإسلام. وقد بلغت المهازل القمة بإعلان موسوليني حاميًا للإسلام والمسلمين في طرابلس الغرب سنة 1936. وكان ذلك مؤذنًا بعودة الجاهلية ومظهر من مظاهرها: (لا بيعة ولا شورى؛ والأمر في بلاد المسلمين للصهاينة والفاتيكان والأمريكان).
وفي غياب دولة الإسلام أصبحت القرارات التي تهم المسلمين تتقرر لدى الجدد من ملوك الطوائف، وفي كل إقليم بشكل منفصل. وتطور الأمر حتى أصبح الصوم والإفطار يتقرر بشكل فردي، لأن رؤية الهلال قرار سياسي والمسلمون لا دولة لهم، لأنهم عادوا إلى المرحلة المكية حيث الإسلام بدون دولة. وأصبح أبناء الليبيين/المسلمين يتنصرون سيرًا على سنة عرب الجاهلية الذين كانوا يتهودون ويتنصرون. فلا تستغربوا أن يتنصر ويتهود أبنائكم طالما رضيتم بالإسلام دين بدون دولة، لأن من مهام الدولة الإسلامية “حراسة الدين وسياسة الدنيا به”. وعند غياب الحارس يضيع المحروس فتستباح الحرمات وتنهار الحدود، ويصبح الزنا حرية والربا تجارة والدعوة إلى الله جريمة.